الثلاثاء، 4 أكتوبر 2016

عصَّار الشجن علاء الديب

شعور مختلف .. فأنا أقرأ في كتاب واحد عن أكثر من مائة عمل أدبي من خلال أكثر من مائة مقال فني للأسطورة علاء الديب، عشرات المقالات خلال ثلاث عقود، وأنا في أحدها لم أكن بعد جنيناً في بطن أمي، إنه كتاب “عصير الكتب” ..

الكتاب ليس نقديَّاً بالمعنى المتعارف عليه من استخدام عبارات إنشائية، أو متبعاً لمنهج تقليدي جامد، وإنما كتاب تُحفَّز من خلاله على اقتناء كثير من الأعمال الأدبية التي شغف بها القدير علاء الديب، مع بداية الكتاب تجد شهادة عظيمة من الكاتب “إبراهيم أصلان”، وهي في الحقيقة شهادة على شهادة؛ أبداها الكاتب علاء الديب على حقبة ثرية ومثيرة (كما وصفها أصلان) من تاريخ هذا الوطن، تلاها تهنئة من الكاتب بلال فضل ببلوغه عامه السبعين، يتخللها مديح وثناء في قامة الديب من خصال نكران الذات، والانشغال بالعمل والمعرفة في تصوف وزهد..
الكاتب والروائي الفذ الذي قضى أربعين سنةً من حياته وسط الكتب، ومر عليه ثلاثة أجيال من الكتاب بكل قامته تلك يقول عن نفسه؛ أنه ليس ناقداً وإنما يقوم بعمل “عرض أو استعراض للكتب/ Book Review” ، إذ كان يُقدِّم كل خميس قصة مختلفة في باب “عصير الكتب”على صفحات مجلة “صباح الخير” وذلك على مدار ثلاثين عاماً، ثم قام بجمع كل تلك المقالات في كتاب اسمه “عصير الكتب” صدرت طبعته الأولى في 2010 عن دار الشروق، مؤكداً أن هدفه الأساسي من مراجعاته تلك؛ هو مشاركة في التفكير العام، فاختياره للكتاب سؤال، والكتابة عنه محاولة للبحث عن إجابة لذلك السؤال ..
الكتاب يضم مائة وأحد عشر عملاً للعديد من الكتاب، ليسوا فقط من المصريين، وإنما اهتم بمتابعة العديد من كتاب ومثقفي العالم العربي، من لبنان وفلسطين والبحرين والمغرب وغيرها، ذلك العدد الضخم من الكتب تنوع في عرض العديد من القضايا التي تؤرخ حياة المجتمع العربي، مثل القضية الفلسطينية ونكسة يونيو ومأساة الأسر، وحرب أكتوبر والاستشهاد والسلام والانفتاح والتضخم، وروايات تسجل نشأة الصناعة المصرية والمطحونين بين الظلم والفقر والتوق للعدل والحرية، وقهر المرأة في المجتمعات العربية، والانتقال الصعب الموجع للمجتمع العربي من البداوة إلى حياة النفط، وأزمات الطبقة الوسطى، والريف المصري وشخصية الفلاح، حتى القراءة في الفانتازيا كان لها مكان في عصير الكتب ..
يبدأ عرضه للكتاب من خلال عنونة المقال النقدي بنفس عنوان العمل الأدبي أو بعنوان آخر اختاره بنفسه، ثم يعرض معلوماته الأساسية (اسم الكتاب، المؤلف، الناشر)، ثم يُعطي قراءة نقدية دقيقة وموجزة في أسطر قليلة بالكاد تتم الصفحتين ونادراً ما وصلت إلى ثلاث صفحات أو أكثر، ثم يُعطي لمحة قصيرة عن أحداث الكتاب (قصة أو رواية أو مجموعة قصصية أو الأعمال الكاملة لبعض الكتاب)، ثم يستفيض في رؤيته الخاصة أو تفسيره للإسقاطات التي وردت بالعمل الأدبي، من خلال ربط وتحليل تلك الإسقاطات مع ما يواجهها في الواقع الحقيقي، كما أنه يذكر بعض الجُمل أو الفقرات التي عملت في نفسه شيء ما، أو وجدت لديه صدىً يستحق الإشادة، مثل ما أشار إليه في كتاب “بشاير اليوسفي” لرضا البهات : “لا شيء يرفع عن النفس اليأس والقنوط والأحزان سوى ضوء قطعة من الفن الصادق الأصيل، الذي يحاول ترتيب الواقع، ويبعث ما فيه من قوة وأمل” ..
كَرِهَ تقسيم الحياة الأدبية إلى أجيال وإنما كان يفضل على الدوام تصنيف الكتاب بحسب مدارسهم واتجاهاتهم، كان يُغرم ويُفتن بكل كتاب ومؤلف يكتب عن الريف والفقراء، يُسلِّط الضوء على الأعمال الأدبية التي يراها تستحق مزيداً من اهتمام القراء والنقاد، ولا ينتقد لمجرد النقد، فتجده عند الثغرات أو الهفوات يُغَلِّف نقده بسبب أو بمبرر للكاتب، كإحدى تعليقاته: “الحرارة والصدق لا تغفر له ارتباك الجملة الأدبية أحياناً”، لو كان نقده لاذعاً فإنه بلسعة برد الخريف الجميل، كما في نقده لأسلوب الغيطاني في كتابه “هاتف المغيب” : (العمارة الكلية للبيت “الرواية” والاتصال بين العمارة ووظيفتها “الرواية-القاريء” مازلت فيما أعتقد- هي مشكلة الكتابة عند جمال الغيطاني.. ماذا يريد الأديب من استحضار هذه الروح؟ وماذا يريد من كل هذه الدقة والجهد والإتقان؟ هو-بالقطع- يريد أن يدلنا على معانٍ خافية تبعثها المشربيات، والمآذن الباسقة في أفق المنيب القاهري الفريد) ..
في كثير من مراجعاته النقدية كان يذكر أن أحداث الرواية أكبر من الاستعراض في هذا الحيز الضيق، ثم يترك للنقاد المجال أو يدعوهم للحديث عن تحقيقات في اللغة والشكل الروائي، يذكر تاريخ ومكان الإصدار وإذا ما كان يتم الإعداد لجزء ثاني من العمل الأدبي، وكان يذكر نبذة عن حياة الكاتب وعمله والمناصب التي تولاها ولا ينسى بالطبع الثناء عليه وعلى فنه وأدبه بكلمات عذبة ومعانٍ رقراقة كلٌ بحسب ما أبدع فيه، وإذا لم يعرف عنه الكثير فإنه يقول لا أعرف عنه الكثير، وفي أثناء الحديث بشكل عام عن عمل روائي فكان يستخدم الكلمات والأوصاف التي تضعك في بنية مجسمة للعمل وكأنك داخل بلاتو تصوير، أو كأنك مشاهد تشاهد الكتاب من خلال عمل درامي على شاشة تليفزيون أو سينما ..
من أكثر العبارات التي ذكرها ولمست قلبي :
(الوقائع هي الوقائع ولكن عندما يُعيد ترتيبها أديب أو فنان فإنها تتخذ في النفس معاني وأبعاداً، أكبر منها وأعظم أثراً في النفس) ..
وأخرى في حديثه عن كتاب “عباد الشمس” وهو عمل لكاتبة فلسطينية : (يُعلمنا هذا النوع من الأدب – أن أول الأعداء.. هو تسترنا على الأخطاء والحقائق الضعيفة، يعلمنا هذا النوع من الأدب أن الأعداء يختفون جيداً خلف أوهامنا.. خلف الأكاذيب التي نصنعها وخلف الأصنام التي نخشى تحطيمها)..
عصَّار الشجن علاء الديب الذي رحل عن عالمنا في فبراير2016 لم يغفل رثاء أصدقائه في كتابه “عصير الكتب” أثناء تناول عمل من أعمالهم، ولرد جزء من جميل هذا العظيم لابد من تسليط الضوء على رواياته ومجموعاته القصصية، وتناولها بشيء من الحب والتقدير ولفت الانتباه كما فعل هو للعديد والعديد على مدى عقود ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق