فما أن تطلب جدتي مني أنا وأختي ذلك حتى كانت تحضرنا الهمة وكأنها استعداد لفسحة .. فكانت تعطي كل منا جنيهاً وتخبرنا ألا نقف معاً .. فتأخذ كل منا دورها في الطابور لنشتري عشرين رغيفاً ، فلم يكن يُسمح للفرد بالشراء إلا بجنيه واحد فقط ، وكانت دقائق الانتظار يملؤها تَأَمُلي في المشاجرات والمشاحنات التي كانت تحدث بسبب أحدهم الذي اعتدى على دورٍ ليس له ، وعندما كان يحين عليَّ الدور أمام الشباك حتى كنت أتعرض لتلك المشادات عن يميني وعن يساري ولأني كنت مسالمة بالطبع ليس فقط لخوفي من نَيْلِي نصيب من البلطجة ولكن لسعادتي بمشاهدة رحلة رغيف الخبز وهو يسير في أجزاء آلة الخَبْز حتى يصل إلى جامعه ليناولني إياه ، وعندما حمدت الله أني لم أقف في طابور العيش هذه الأيام ولم أشاهد الناس تفقد أعينها وأرواحها من أجل لقمة العيش وجدتني أستغفر الله لأني أنتظر في طابور لتزويد السيارة بالبنزين ليسد هذا الطابور شارع بأكمله وعندما أصل لنهاية الطابور أجد عامل المحطة يخبرني أن البنزين قد نفذ من المحطة فأسير لكيلومترات إضافية باحثة عن البنزين في أكثر من محطة وكأني أبحث عن رغيف العيش في حين أنه إذا استحال الحصول على البنزين فعلاً فممكن لأصحاب السيارات أن يتنقلوا باستخدام وسائل النقل العام كما يفعل الناس بالخارج ليس لندرة البنزين ولكن للتخفيف من حِدة الزحام وتوفير موارد الطاقة .. نعم وجدنا البديل في هذه الحالة.. ولكن ما البديل عندما لا تجد السيدات والأطفال الذين يقفون في طوابير أيضاً من أجل أنبوبة الغاز ؟! هل يعلم هؤلاء البسطاء أن أنبوبة الغاز التي يتقاتلون من أجلها تصدر إلى إسرائيل بأبخس الأثمان وهم لا يجدونه للطبخ في بيوتهم ؟! حتى لو علموا بذلك فما العمل فالعين بصيرة واليد قصيرة ؟؟!! عنده أقوم بالدعاء على الرئيس المخلوع مبارك وحسين سالم كمية من الأدعية التي أرجو أن تكون من حظهم ونصيبهم !
كل هذه المشاهد تمر كشريط السينما أمام عيني وأنا أقف في مطار القاهرة الجديد بعد رحلة سير شاقة من نقطة الحصول على ( بوردينج الطائرة ووزن الحقائب ) حتى الوصول لطابور الجوازات ولا أعلم حكمة أحمد شفيق بهذا ( التراك) الطويل من المشي في جنبات المطار ؟ ربما ليفك المسافرين القادمين من المحافظات (رُكَبَهم) بعد ركوب السيارة لساعات .. المهم وللعجب كالعادة تجد العديد من ( كاونترات ) لختم جوازات السفر قبل المغادرة ولكن للأسف الذي كان يعمل ثلاثة منهم فقط ليمتد الطابور ويمتد فيكره المواطن حياته ويظل يلعن في البلد لآخر لحظة يقف فيها على أرضها .. والمضحك أنه كان أحد العاملين يقوم بدفع عربة مثقلة بالكراتين القديمة ليقوم بقطع هذا الطابور من المنتصف غير مبالٍ باحترام من يقف فيه .. فهو مصمم على العبور من وسط المسافرين ولا يكلف نفسه بالمرور من خلف آخر واحد بالطابور..
وبالرغم من كل هذه الذكريات المريرة مع الطوابير إلا أنني لم أجد مثال على أجمل طابور في العالم إلا الطابور الذي وقف فيه الناس للتصويت على التعديلات الدستورية .. فلأول مرة في تاريخ طوابير مصر يقف الناس في سعادة وإصرار للإدلاء بأصواتهم بحرية ثم يقفوا من بعد ذلك ليأخذوا الصور التذكارية مع أصابعهم بعد أن اكتسبت ألوان الحرية في التصويت ..
ومن طابور لطابور لا أنسى أبداً أول طابور أقف فيه وهو طابور الصباح في المدرسة الذي كنت أُعزَّهُ جداً والذي أقف فيه رافعةً رأسي لعلم مصر أحييه كل صباح بالرغم من أشعة الشمس التي لم تكن تجعلني أراه كما يجب ..
وفي النهاية أقول : يا حبيبتي يا شادية وإنت بتقولي ( أصله ما عداش على مصر!! ) فعلاً لو كان وَقف شوية في الطابور كان ممكن حصل إيه ؟؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق