الاثنين، 17 أكتوبر 2011

فول وفلول



http://www.almasryalyoum.com/node/506120


ككلِ صباحٍ فتحَ عينيهِ كالعادةِ على صوتِ صراخٍ في ( الحارة ) قائلاً لنفسهِ : لابدَّ وأنَّ إحداهن قد سُرقت حقيبتُها للتو أو أنَّ إحداهن جاءَها خبُر ابنِها أو زوجِها في حادثِ سيارةٍ أو قطارٍ أو مركبٍ أو ربما مظاهرة .. انتشلَ الطبقَ الوحيدَ الذي لا يوجدْ به أكثُر من شقٍ واحدٍ لينزلَ لمعتركِ الحياةِ ليملأه بالفول ..
انتعل حذاء العمر وبدأَ خطواته نزولاً على سلم خشبي مسنوداً على حائط في سطح عمارة آيلةً للسقوط بالرغم من تعدد المحاولات لترميمها يستأجر غرفة من الخشب في أعلاها .. وبعد الاستمرار في نزول أربعة أدوار في وقت ليس بالقصير وصل لباب العمارة .. ولِمَ العجلة ففي كل الأحوال سيقف في شبكة من الآدميين المتناحرين على عربة الفول ..
وفي رحلة الذهاب كانت رأسه أشبه بماكينة تتعارك أجزاءها في تناغم ملحوظ لتوزيع المرتب الذي سيتسلمه اليوم من عمله في مصلحة حكومية ولكن دون فائدة فعلى كل حال ستستحوذ عليه المدام لتوزعه على بنود الميزانية من طعام وشراب وفواتير مياه وكهرباء ومصاريف الأولاد إلى أن يناله في النهاية بِضع جنيهات لمواصلاته تضيع في جيب بنطلون عفا عليه الزمن وقد تخاصمت خيوطه من استمرارية المحاولات للبحث فيه عن جنيهٍ فضي غائرٍ في إحدى زواياه ..
وبوصوله إلى الكتلة البشرية المشهورة هناك في جزءٍ رحبٍ من الحارة حتى استمات بغريزته البشرية لِنَيْل نصيبه من الفول قبل نفاذه من القِدْرة..
" يا سلام لو طلبت شوية طعمية .. ما أنا هاقبض النهاردة المرتب " .. فكرة جالت بخاطره وسرعان ما اختطفها لسانه ليطلق لها العنان لتتردد على مسامع الواقفين ليرشقه كلٌ منهم بنظرات الاستنكار ، ولِمَ لا ؟! فبطلبه هذا سيشغل البائع عن عمليته الميكانيكية في مناولة الآخرين أطباقهم ..  وما أن استلم الطبق و( قرطاس ) الطعمية حتى حافظ على مقامهما عالياً للإبقاء عليهما دون مساس والخروج بأقل قدر من الخسائر ..
" يادي المصيبة !! .. أنا اصطبحت بِوِشْ مين النهاردة " قالها عاليةً ليلتفت إليه كل من حوله فتحدث حالة من الثبات والصمت للحظات لِيرَوا ما أصاب الرجل فمن هَوْلِ مظهره لابد وأنَّ كارثةً قد وقعت .. وكقطارٍ يطوي الأرض قطع المسافة الباقية لبيته .. فقد تذكر وجوب توجهه إلى أقرب لجنة انتخابية فاليوم بدء انتخابات مجلس الشعب ولابد وأن يدلي بصوته ..
صعد هذه المرة الأربعة أدوار في لمح البصر ولم يهمه ما كان يحدث للفول حتى وصل إلى طاولة الطعام الكائنة في غرفته ولم يعد في الطبق ما يكفي ليتشاجر عليه أولاده .. وقبل أن تمارس زوجته هوايتها المفضلة في السين والجيم عما حدث للفول كان هو ينزلق على درجات السلم حتى وضع قدميه في أول ميكروباص قابله ..
ومرةً أخرى .. تتفرج عليه أمة لا إله إلا الله التي تشاركه الميكروباص من محاوراته لنفسه وكيف لا ؟! فلن يستلم مرتبه اليوم إلا بما يثبت أنه أدلى بصوته لنائب الدائرة المختار عن الحزب المنحل وليس سواه .. حاول أن يثني نظرات الناس عنه ببحثه في جيبه عن الجنيهات التي سيدفعها أجرة الميكروباص .. ولكنه لم يجد الجنيه الفضي ..
وعندما وصل للجنة الانتخابية حاول أخذ نفساً عميقاً محاولاً جمع شتاته وهَمَّ بالدخول .. ولكن هيهات فلم تنتهي معاناة أستاذ عبد القوي بعد .. مشهد معتاد كل دورة انتخابية بوقوف عدد من البلطجية حاملي السيوف والسنج لمنع دخول أي أحد يحاول التصويت للمرشح المنافس لملك الدائرة (النائب الذي يمتلكها لفوزه بها لعقود طويلة ) .. ولأن حظ أستاذ عبد القوي عثر في أغلب الأوقات كان لزاماً عليه ليعطي صوته ( ببلاش) دون قطعة لحم أو وعد بتوظيف أحد أبنائه كما يفعل نواب في دوائر أخرى لناخبيهم .. وعندما دخل وأخذ الورقة الانتخابية فوجئ بعدم وجود اسم النائب الذي لزاماً  وأن يصوت له والذي ظل ينتخبه لسنوات حتى أنه انتابه الشك أنها ليست اللجنة الصحيحة .. إلى أن سأل أحد المشرفين فقال له : البقاء لله لقد مات منذ عدة أشهر .. يوجد ابنه الآن هو من ستقوم بالتصويت لأجله .. طبعاً ودون أن تزيغ عينيه على أسماء المرشحين الآخرين وضع العلامة عند السيد وريث الكرسي .. وأخذ نفس النفس العميق وغادر .. وصل للمصلحة الحكومية بأعجوبة بعد أن عانده زحام المرور لينهي ما بقي له من صبر .. استلم مرتبه وانصرف كالعادة قبل انتهاء موعد العمل .. وبوصوله إلى بيته ناول الزوجة الثلاثمائة وخمسين جنيهاً وراح ليسند جنبه على السرير واستعد ليغط في نومٍ عميق بعد شقاء الساعات الأخيرة .. وما أن بدأت عيناه تستسلم للنعاس حتى هبَّ فزعاً من صراخ سيدة صوتها ليس بالبعيد عن جنبات البيت  فعلم أن هناك أمراً جللاً يحدث في منزله .. أمين شرطة يقف على الباب يقول : أين والد عامر عبد القوي حماد ؟! والزوجة  تصرخ وتنادي عليه !! وبالسرعة المعتادة كالبرق يخرج ليحدث أمين الشرطة .. أنت والد عامر ؟! .. نعم .. خير إيه اللي حصل ؟! ابنك أصيب في أحداث شغب في الجامعة ونقلوه للمستشفى .. تعالت الصرخات في أرجاء المنزل .. ثم انتفض عبد القوي ينتعل الحذاء ليصل إلى باب الشارع بأعجوبة أخرى ليصل إلى المستشفى وشفتاه تتمتمان بتضرعات إلى الله أن يأتي بالعواقب سليمة فيقابل أحد أصدقاء ابنه منهاراً على الأرض من البكاء .. فيحاول أن يسأله ما الذي حدث لابنه ؟! .. رد صديق ابنه بعبارات تكاد تكون مفهومة بأن اليوم كان موعد انتخابات عميد الكلية وكنا نتظاهر ونعتصم لأسابيع لإقالة وعزل العميد الحالي ولكنه لم يفعل واليوم أصر على  خوض الانتخابات بالرغم أنه من فلول الحزب المنحل وعندما حاولنا التجمع حول سيارته لمنعه من الدخول انطلق وقام بدهس عددٍ من زملائنا ومن بينهم عامر .. لم يتمالك الأب نفسه بعد سماع الحديث وسقط على الأرض من شدة الصدمة .. ابنه وما يتمناه من الدنيا بين الحياة والموت .. توالت أمام عينيه مشاهد التزوير والبلطجة والفساد .. قام بإخراج سبحته الصغيرة من جيبه ليدعو ربه أن ينقذ ابنه .. وعندها سقط من جيبه الجنيه الفضي الذي كان يبحث عنه طوال اليوم ..
قصة قصيرة
17/10/2011

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق